طباعة الخطبة PDF اضغط هنا
طباعة الخطبة word اضغط هنا
خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 19 من رمضان 1440هـ - الموافق 24 / 5 / 2019 م
الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ غَنِيمَةُ الْعَابِدِينَ
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يَتَنَافَسُ فِيهِ المُتَنَافِسُونَ، وَيُسَارِعُ إِلَيْهِ المُتَسَابِقُونَ، لَيَالِيَ الْعَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ، تِلْكَ اللَّيالِي الَّتِي خَصَّهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالأُجُورِ الكَثِيرَةِ، وَالفَضَائِلِ المَشْهُورَةِ، وَالخَصَائِصِ الوَفِيرَةِ: فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ بِالْعَمَلِ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْيِي لَيْلَهُ بِالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ؛ اغْتِنَامًا لِشَرَفِ هَذِهِ اللَّيَالِي وَطَلَبًا لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهَا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَهَذَا شَامِلٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ مِنْ: صَلَاةٍ وَقُرْآنٍ وَذِكْرٍ وَصَدَقَةٍ وَغَيْرِهَا. وَلِفَضِيلَةِ هَذِهِ اللَّيَالِي فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِيهَا لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ؛ حِرْصًا عَلَى اغْتِنَام ِهَذِهِ اللَّيَالِي المُبَارَكَةِ بِمَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِهِ مِنَ العِبَادَةِ؛ فَإِنَّهَا فُرْصَةٌ مِنْ فُرَصِ العُمْرِ، وَغَنِيمَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ أَنْ يُفَوِّتَ هَذِهِ الفُرْصَةَ الثَّمِينَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، فَمَا هِيَ إِلَّا لَيَالٍ مَعْدُودَةٌ، رُبَّمَا يُدْرِكُ الإِنْسَانُ فِيهَا نَفْحَةً مِنْ نَفَحَاتِ المَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَتَكُونُ سَعَادَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ هَذِهِ الْعَشْرَ فِي المَسْجِدِ، يَتَفَرَّغُ لِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعْتَكَفَ أَصْحَابُهُ وأَزْوَاجُهُ مَعَهُ وَبَعْدَهُ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتكَفَ العَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ فأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ: إِنِّي اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ؛ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأَوْسَطَ، ثمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي العَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ r يَعْتَـكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ]، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ: «لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ الِاعْتِكَافَ مَسْنُونٌ».
وَعَلَى الْمُعْتَـكِفِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، طَلَبًا لِفَضْلِ اللهِ وَثَوَابِهِ، وَإِدْرَاكًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ، قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحَمِهُ اللهُ -وَهُوَ يَذْكُرُ اعْتِكَافَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودَ مِنْهُ- : (كُلُّ هَذَا تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِاعْتِكَافِ وَرُوحِهِ، عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ الجُهَّالُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمُعْتَكَفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ، وَمَجْلَبَةٍ لِلزَّائِرِينَ، وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَالِاعْتِكَافُ النَّبَوِيُّ لَوْنٌ).
عِبَادَ اللهِ:
فِي هَذِهِ العَشْرِ المُبَارَكَةِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهَا، وَمَنَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِجَزِيلِ فَضْلِهَا وَخَيْرِهَا، أَشَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهَا فِي كِتَابِهِ المُبِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: )تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( [القدر:4-5]، فَلَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ سَلَامٍ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ لِكَثْرَةِ مَنْ يُعْتَقُ فِيهَا مِنَ النَّارِ، وَيُنَجَّى مِنْ دَارِ الْبَوَارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( [الدخان:3]، فَهِيَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ لِكَثْرَةِ خَيْرِهَا وَبَرَكَتِهَا وَفَضْلِهَا، وَمِنْ بَرَكَتِهَا: أَنَّ هَذَا القُرْآنَ المُبَارَكَ أُنْزِلُ فِيهَا، وَوَصَفَهَا سُبْحَانَهُ: بِأَنَّهُ يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، يَعْنِي: يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إِلَى الكَتَبَةِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الأَرْزَاقِ وَالآجَالِ وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ المُحْكَمَةِ المُتْقَنَةِ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَمِنْ فَضَائِلِ لَيْلَةِ القَدْرِ: مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] يَعْنِي: إِيمَانًا بِاللهِ، وَبِمَا أَعَدَّ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ لِلْقَائِمِينَ فِيهَا، وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ.
وَلِفَضْلِهَا وَعَظِيمِ ثَوَابِهَا سَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: »قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي« [رَوَاهُ أَحْمَدُ و التِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الخَاسِرِينَ المَرْدُودِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ – عِبَادَ اللهِ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ:
إِنَّهَا فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ، وَغَنِيمَةٌ كَبِيرَةٌ، فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُشَمِّرَ عَنْ سَاعَدِ الْجِدِّ، وَنَجْتَهِدَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، فِي تَحَرِّي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ طَلَبًا لِـرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا]، وَهِيَ- مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ - فِي الأَوْتَارِ أَقْرَبُ مِنَ الأَشْفَاعِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الْأَوَاخرِ مِنْ رَمَضَانَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَهِيَ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ أَقْرَبُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الْأَوَاخِرِ(يَعْنِي: لَيْلَةَ القَدْرِ) فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. لَكِنَّهَا -عِبَادَ اللهِ- لَا تَخْتَصُّ بِلَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الأَعْوَامِ، بَلْ تَتَنَقَّلُ فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ آخَرَ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَكَذا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا: مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةُ القَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ]، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِلْخِلَافِ فِي وَقْتِ لَيْلَةِ القَدْرِ: (وَأَرْجَحُهَا كُلِّهَا أَنَّهَا فِي وِتْرٍ مِنَ العَشْرِ الأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ).
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ الْكِرَامُ:
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْشَطُ فِي قِيَامِ الأَوْتَارِ وَيَكْسَلُ فِي لَيَالِي الأَشْفَاعِ، وَهَذَا مِنَ الخَطَأِ الَّذِي قَدْ تُحْرَمُ بِهِ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ كَشَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ - وَنَسَبَهُ لِأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الأَشْفَاعِ، لِذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ).
وَقَدْ أَخْفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلْمَهَا عَلَى العِبَادِ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِيَكْثُرَ عَمَلُهُمْ فِي طَلَبِهَا، وَاخْتِبَارًا لَهُمْ؛ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ جَادًّا فِي طَلَبِهَا، حَرِيصًا عَلَيْهَا، مِمَّنْ كَانَ غَافِلًا مُتَهَاوِنًا، فَلَيْلَةُ القَدْرِ يُفْتَحُ فِيهَا البَابُ، وَيُقَرَّبُ فِيهَا الأَحْبَابُ، وَيُسْمَعُ الخِطَابُ، وَيُكْتَبُ لِلْعَامِلِينَ فِيهَا عَظِيمُ الأَجْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَاجْتَهِدُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فِي طَلَبِهَا، فَهَذَا أَوَانُ الطَّلَبِ، وَاحْذَرُوا مِنَ الغَفْلَةِ؛ فَفِي الغَفْلَةِ العَطَبُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَغَضِّ الْبَصَرِ وَتَرْكِ الآثَامِ ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ صِيَامَنَا وَقِيَامَنَا وَصَالِحَ أَعْمَالِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَيُكْتَبُ لَهُ عَظِيمُ الأَجْرِ، وَيُمْحَى عَنْهُ كُلُّ ذَنْبٍ وَوِزْرٍ، يَا سَمِيعَ الدُّعَاءِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالـمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ أَمِيرَ البِلَادِ وَوَلِـيَّ عَهْدِهِ، وَوَفِّقْهُمَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَأَصْلِحْ لَهُمَا البِطَانَةَ وَالرَّعِيَّةَ، وَاهْدِهِمَا لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ ،وَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بِالْـجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَـحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ ،وَجَمِيـعِ سَخَطِـكَ يَـا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ أَمْوَاتَنَا وَأَمْوَاتَ الْمُسْلِمِينَ ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا ، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة